بيع العربون بين المجيزين والمانعين!

بيع العربون هو أحد صور البيع التي تثار حولها العديد من التساؤلات في الفقه الإسلامي، حيث يعطي المشتري جزءًا من ثمن السلعة كعربون لضمان إتمام البيع، فإن عاد عن الشراء خسر هذا العربون، وإن أتم الشراء حُسب من الثمن. وقد اختلف الفقهاء في حكم بيع العربون بين مجيزين ومانعين، ولكل فريق حججه وأدلته من القرآن والسنة والاجتهاد.

تعريف بيع العربون

العربون في اللغة يعني الدفعة المقدمة أو المقدار المدفوع مسبقًا لضمان الصفقة. وفي اصطلاح الفقهاء، يُعرف بيع العربون على أنه بيع يشترط فيه المشتري دفع جزء من ثمن السلعة عند الاتفاق، كإشارة منه للالتزام بالبيع، على أن يُحسب من الثمن الكلي عند الإتمام، أو يُترك للبائع في حال عدم إتمام الصفقة.

آراء الفقهاء حول بيع العربون

اختلف الفقهاء في حكم بيع العربون، حيث ينقسمون بين مجيزين ومانعين لهذا النوع من البيوع، ولكل منهم أدلته.

1. المجيزون لبيع العربون

يذهب بعض الفقهاء، مثل الحنابلة، إلى جواز بيع العربون، حيث يرون أنه وسيلة لتأكيد نية المشتري وتثبيت الصفقة، ويستدلون على ذلك بما يلي:

  • الدليل من السنة: يستدل هؤلاء بما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه “نهى عن بيع العربون”، لكنهم يرون أن الحديث ضعيف وغير متواتر، مما يجعله غير صالح للاستدلال.
  • أصل الإباحة: يرى المجيزون أن الأصل في المعاملات الإباحة، وأن بيع العربون لا يتعارض مع مبادئ الشريعة ما دام فيه تراضٍ بين الطرفين.
  • المصلحة: يعتبر المجيزون أن بيع العربون يحقق مصلحة للطرفين، إذ يمنح البائع ضمانًا بعدم تضييع وقته على مشترين غير جادين، كما يعطي المشتري وقتًا للتفكير دون أن يفقد فرصة الشراء.

2. المانعون لبيع العربون

يذهب جمهور من الفقهاء، مثل المالكية والشافعية، إلى منع بيع العربون، ويستدلون على ذلك بعدة أدلة، من أهمها:

  • الحديث الشريف: يستدل المانعون بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيه: “نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع العربان”، وهو حديث رواه الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما. ويعتبرون الحديث دليلاً كافيًا على تحريم بيع العربون.
  • الغَرَر: يعتبر المانعون أن بيع العربون يحتوي على نوع من الغرر والجهالة، لأن المشتري قد لا يتمم الصفقة ويخسر العربون المدفوع، مما يعرضه للخسارة بلا مقابل، ويخالف القاعدة الفقهية التي تقضي بعدم جواز المعاملات التي تتضمن ضررًا أو مخاطرة.
  • عدم المساواة في الحقوق: يرى المانعون أن بيع العربون يعطي البائع الحق في استبقاء المبلغ دون مقابل إذا تراجع المشتري، مما يعتبرونه ظلمًا وخللاً في مبدأ التوازن في العقود.

أقوال الفقهاء في المسألة

تعددت أقوال الفقهاء في بيع العربون بين الجواز والمنع، وذلك على النحو التالي:

  1. المذهب الحنبلي: يجيز الحنابلة بيع العربون إذا تم الاتفاق بين الطرفين على ذلك، ويرون أن الاحتفاظ بالعربون يعتبر تعويضًا عن تراجع المشتري.
  2. المذهب المالكي والشافعي: يمنع المالكية والشافعية بيع العربون، ويستدلون بحديث النهي، ويرون أن أي اشتراط يدفع المشتري فيه عربونًا يكون باطلًا، وأنه يُعتبر ضربًا من القمار لوجود المخاطرة.
  3. المذهب الحنفي: يرى الأحناف أن بيع العربون غير جائز إذا لم يتفق الطرفان على أن العربون جزء من الثمن، وذلك لأن احتفاظ البائع بالمبلغ إذا لم يكتمل البيع يُعتبر من قبيل الجهالة المحرمة.
  4. الإمام ابن تيمية وابن القيم: يرى الإمام ابن تيمية وابن القيم جواز بيع العربون إذا اتفق الطرفان على ذلك، ويريان أن المصلحة في هذه الحالة مقدمة على النهي، إذ يُعتبر البيع في صالح الطرفين ويساعد على ضبط العقود.

شروط جواز بيع العربون

يرى بعض الفقهاء أنه إذا تم جواز بيع العربون، فإن هناك شروطًا ينبغي توافرها لتجنب الظلم والغرر، ومنها:

  1. التراضي بين الطرفين: ينبغي أن يكون بيع العربون باتفاق واضح بين البائع والمشتري، وأن يتم توثيق ذلك.
  2. تحديد مدة العقد: يجب تحديد مدة معقولة لإتمام الصفقة، حتى لا يبقى البائع مرتبطًا بالمشتري دون إتمام البيع.
  3. الوضوح في الشرط: يجب أن يُفهم العربون كجزء من الثمن ولا يجوز اشتراطه كغرامة مالية، حتى لا يكون في ذلك مخالفة للشرع.

فوائد بيع العربون

يرى بعض الفقهاء أن بيع العربون له عدة فوائد للطرفين، ومنها:

  1. ضمان الجدية: يساعد العربون في التأكد من جدية المشتري ويقلل من تراجع المشترين بعد الاتفاق.
  2. تقليل التلاعب: يمنع بيع العربون من التلاعب في العقود، حيث يكون المشتري أكثر حرصًا على إتمام الصفقة.
  3. حماية البائع: يُعطي البائع ضمانًا ماليًا في حال تراجع المشتري عن الشراء، مما يوفر عليه وقتًا وجهدًا.

الخلاصة

في الختام، يتضح أن بيع العربون مسألة خلافية بين الفقهاء، حيث يرى البعض جوازه بشروط معينة، فيما يمنعه آخرون استنادًا إلى أحاديث وآراء فقهية. والراجح هو النظر إلى المصلحة في العقود، فإن كان بيع العربون يحقق مصلحة واضحة للطرفين ويخلو من الغرر والظلم، فإن من الممكن الأخذ برأي المجيزين. ولذا، من الأفضل للمسلمين استشارة أهل العلم إذا واجهوا هذه المسألة في حياتهم، حتى يكونوا على بينة من الأمر وفقًا لما يحقق التوازن والعدل.